7- [ثورة الحسين عليه السلام]

7- [ثورة الحسين عليه السلام]

وقد تمحل كثير من الزيدية والفرق الضالة قديما وبعض أصحابنا -هداهم الله للصواب- أخيرا وجوها شتى لتبرير سعيهم لرفع راية التشيع واسم الإمام عليه السلام بإقامة الدولة، أو معارضة الحكام في حكمهم، أو تشكيل الأحزاب التي لا يتوهم الحكام ولا يشك في كونها معارضة لدولته.
ومن حججهم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كفريضة قائمة لا يمكن تعطيلها، وقد مر الجواب عنها.
ومنها: التمسك بقيام الحسين عليه السلام بثورته رغم ما تكال على الأمة من المصائب، وأقواله عليه السلام نص في حرمة مهادنة الحكام الفساق.
أقول:
لا ينبغي جعل كلام غير المعصوم هاديا لفهم المعصوم، "أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون"، بل هو من تسويلات إبليس اللعين لبعض إخوتنا في الدين، فصدهم عن المحكم من كتاب الله وسنة نبيه وآله، وسلك بهم سبل غيرهم وعظم لهم الركون لأفهامهم، فلووا ألسنتهم ليعجب الناس لحنه واصطبغوا بصبغة العلم وهم في بحر الشبهات يسبحون، وقد صدق مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في توصيف بعضهم بقوله في خطبته الشهيرة في أصناف الناس وهي شديدة لا يرتضيها من قيل فيه وهي فيه، وكأنها قوله تعالى: "كالحمار يحمل أسفارا":
"إنَّ أَبْغَضَ الْخَلَائِقِ إِلَى اللَّهِ [تَعَالَى‏] رَجُلَانِ:
رَجُلٌ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ مَشْغُوفٌ بِكَلَامِ بِدْعَةٍ وَ دُعَاءِ ضَلَالَةٍ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَ بَعْدَ وَفَاتِهِ حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ.‏
وَ رَجُلٌ قَمَشَ جَهْلًا، مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الْأُمَّةِ عَادٍ فِي أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ، قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ، حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ وَ اكْتَنَزَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ، لا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ وَ إِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ، جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالاتٍ، عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ، لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ‏ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ- يَذْرُو الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ، لا مَلِيٌّ وَ اللَّهِ إِصْدَار مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَ لا [هُوَ] أَهْلٌ لِمَا [فُوِّضَ‏] بِهِ [إِلَيْهِ‏]، لا يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شَيْ‏ءٍ مِمَّا أَنْكَرَهُ، وَ لا يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ، وَ إِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ وَ تَعَجُّ مِنْهُ الْمَوَارِيثُ.
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالًا وَ يَمُوتُونَ ضُلَّالًا، لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَ لا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَ لا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَ لا عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَ لا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَر".

وأما القول في الجواب عن شبهتهم:
فأولها وأوضحها: أن الشيعة رهن أمر أئمتهم، فإن قام الحسين قاموا وإن قعد السجاد وأبناؤه وأمروا شيعتهم بالانتظار سلَّموا، ليس علينا سؤالهم عن فعلهم وليس عليهم جوابنا عن حركاتهم وسكناتهم، وما علينا إلا السؤال عن التكليف، وقد مر عليك بما لا مزيد عليه من نور كلامهم صلوات الله عليهم، فمن أراد اتباعهم نجى وصحت حُجَّته، ومن خالفهم هلك وغوى وبارت تجارته، وليس هذا الجواب من الأكل من القفى وليس نفس المدعى، فراجع تنجع.
ثانيها: ما في الأخبار المعصومة والمشهورة من كواشف عن علة قيام المعصوم أو قعودة بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أحسن الجواب السيد المدني في شرح الصحيفة حيث قال ناطقا بما في الأخبار:
" فإن قلت: فقد كان الحسين (عليه السّلام) عالما بذلك فكيف ساغ له الخروج حتّى تمّ عليه ما تمّ ؟.
قلت: عن ذلك جوابان:
أحدهما: إنّه كان معهودا إليه بذلك، مأمورا بالخروج مع العلم، فانّ أفعالهم (عليهم السّلام) كلّها معهودة من اللّه تعالى، كما دلّت عليه الروايات عنهم (عليهم السّلام):
منها: حديث الوصيّة، و هو ما رواه ثقة الإسلام باسناده عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «إنّ الوصيّة نزلت من السماء على محمّد (صلى الّله عليه و آله) كتابا لم ينزل على محمّد (صلّى اللّه عليه و آله) كتاب مختوم إلاّ الوصيّة، فقال جبرئيل: يا محمّد هذه وصيّتك في أمّتك عند أهل بيتك، فقال رسول اللّه‏ (صلّى اللّه عليه و آله):
أيّ أهل بيتي يا جبرئيل؟ قال: نجيب اللّه منهم و ذريّته ليرثك علم النبوّة كما ورثه إبراهيم (عليه السّلام)، و ميراثه لعليّ و ذرّيّتك من صلبه، قال: و كان عليها خواتيم قال: ففتح عليّ (عليه السّلام) الخاتم الأوّل و مضى لما فيها ثمّ فتح الحسن (عليه السّلام) الخاتم الثاني و مضى لما أمر به فيها، فلمّا توفّي الحسن (عليه السّلام) و مضى.
فتح الحسين (عليه السّلام) الخاتم الثالث فوجد فيها: أن قاتل فاقتل و تقتل و اخرج بأقوام للشهادة لا شهادة لهم إلاّ معك، قال: ففعل.
فلمّا مضى دفعها إلى عليّ بن الحسين (عليه السّلام) قبل ذلك ففتح الخاتم الرابع فوجد فيها أن اصمت و أطرق لما حجب العلم، فلمّا توفّي و مضى دفعها إلى محمّد بن عليّ (عليهما السّلام) قبل ذلك ففتح الخاتم الخامس فوجد فيها أن فسّر كتاب اللّه، و صدّق أباك و ورّث ابنك و اصطنع الامّة، و قم بحقّ اللّه و قل الحقّ في الخوف و الأمن و لا تخش إلاّ اللّه، ففعل ثمّ دفعها إلى الّذي يليه، قال: قلت له: جعلت فداك فأنت هو؟ قال فقال: ما بي إلاّ أن تذهب يا معاذ فتروي عليّ».
فهذا الحديث صريح النصّ بأنّهم (عليهم السّلام) لم يفعلوا أمرا إلاّ بعهد من اللّه تعالى، فسقط الاعتراض.

الجواب الثاني: إنّ التكاليف الشرعيّة بالنسبة إليهم مقصورة على ما يعلمونه بالعلوم الظاهريّة دون العلوم الغيبيّة، فالحسين (عليه السّلام) لمّا ظهر له بذل الطاعة من أهل الكوفة و كاتبه وجوههم و أشرافهم و قراؤهم مرّة بعد أخرى طائعين غير مكرهين، و مبتدئين غير مجيبين، لم يسعه في الظاهر إلاّ الخروج و القيام في إعلاء دين اللّه و كلمته، ألا تراه (عليه السّلام) لمّا بلغه قتل مسلم بن عقيل و خذلان أهل الكوفة همّ بالرجوع فلم يمكّن.
 و كذلك كان حال الحسن (عليه السّلام) فانّه نهد أوّلا إلى حرب معاوية في شيعته و سار إلى لقائه مع علمه في الباطن بمصير الأمر إليه لكن لم يثن ذلك من عزمه حتّى ظهر له خذلان أصحابه و تفرّق أهوائهم، و ميل أكثرهم إلى معاوية طمعا في دنياه، و تفاقم الأمر إلى أن جلس له بعضهم في ساباط مظلم، و طعنه بمعول أصاب فخذه و شقّه حتّى وصل العظم فلمّا علم بالعلم الظاهر عدم تمكّنه و توجّه الضرر إليه و إلى المؤمنين من شيعته نزع إلى الصلح و كفّ عن الجهاد.
و هكذا حال سائر الائمّة (عليهم السّلام) فانّهم لو وجدوا من الأنصار من يتمكّنون بهم من الخروج لم يسعهم إلاّ الخروج و القيام مع علمهم في الباطن بحقيقة الحال، يدلّ على ذلك ما رواه ثقة الإسلام باسناده إلى سدير الصيرفي قال: «دخلت على أبي عبد اللّه (عليه السّلام) فقلت له: و اللّه ما يسعك القعود، فقال: و لم يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك و شيعتك و أنصارك، و اللّه لو كان لأمير المؤمنين مالك من الشيعة و الأنصار و الموالي ما طمع فيه تيم و لا عديّ، فقال: يا سدير و كم عسى أن يكون؟ قلت: مائة ألف، قال: مائة ألف؟ قلت: نعم و مائتي ألف، فقال:
مائتي ألف؟ قلت: نعم و نصف الدنيا قال: فسكت عنّي ثمّ قال: يخفّ عليك ان تبلغ معنا إلى ينبع ؟ قلت: نعم، فأمر بحمار و بغل أن يسرجا فبادرت فركبت الحمار، فقال: يا سدير أ ترى أن تؤثرني بالحمار؟ قلت: البغل أزين و أنبل، قال:
الحمار أرفق بي، فنزلت فركب الحمار و ركبت البغل فمضينا فحانت الصلاة فقال:
يا سدير انزل بنا نصلّى، ثمّ قال: هذه أرض سبخة لا تجوز الصّلاة فيها، فسرنا حتّى صرنا إلى أرض حمراء، و نظر إلى غلام يرعى جداء فقال: و اللّه يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود، و نزلنا و صلّينا فلمّا فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر».
و هذا الحديث صريح فيما ذكرنا، و في هذا المعنى أخبار أخر لا نطول بذكرها و إنّما اختلفت أجوبتهم (عليهم السّلام) في العذر لأنّهم يكلّمون الناس على قدر عقولهم، و يجيبون كلّ سائل بما تقتضيه المصلحة في الجواب، و اللّه أعلم‏".

وقد يجاب بأجوبة أخرى لا يسعها هذا المختصر، إلا أننا نورد بعذا منها لمن لا يأنس بالأحاديث وتقلقه كل شبهة ولو قام على نقضها ألف حديث:
منها: أن قيامه عليه السلام حجة على من سيأتي في زمن يسوغ فيه القيام وتجتمع شروطه - فلو لم يقم الحسين عليه السلام ولا أحد من الأئمة لأنس الناس بالظالم ولم يروا المعصوم إلا مقرا له على ظلمه مع اجتماع الشروط للقيام ظاهرا، ولتوهم الحكام الطواغيت أن بمقدورهم التجاهر بالكفر كيزيد- وهو ما أكدته الأخبار الصحيحة وعينته في زمن القائم روحي فداه، فلن يرتاب أحد ويحتج بأن لم يقم أجداده.
ومنها: أن يزيد كان ممن يجاهر بالكفر بعكس أبيه ومن أتى بعد يزيد فإنهم كلهم كانوا يتظاهرون بالإسلام، ولم يكن يمنع يزيد مانع من إهلاك الدين كله، حيث دولة الإسلام لم تتسع رقعتها بما يمكن حفظ الدين في طرف من أطرافها، فلو لم يعارض لأفنى الدين في مهده، بخلاف من سبقه ومن خَلَفَه، فقد اتسعت الدولة وكثر المعارضون وساس السلطان رعيته سياسة الخائف على ملكه ودولته، ولم يشهد الإسلام وقتها حاكما كيزيد عليه لعنة الله، ولن يشهد بعد هذا إلا السفياني عليه اللعنة والعذاب.
ولا يخفى أنها أجوبة تحتمل الرد، ولا أجدى في الأجوبة من نفس جواباتهم عليهم السلام.
ولعمري إن الأمر أوضح من أن يوضح، وكفى بما مضى حجة وإن المعاند لا تنفعه ألف حجة.

بتبع  .........

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق